فصل: بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان صفة الدنيا بالأمثلة

اعلم أن الدنيا سرعية الفناء قريبة الانقضاء تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها وإنما يحس عند انقضائها ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر لا تدرك حركته بالبصر الظاهر بل البصيرة الباطنة ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال‏:‏ أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول‏:‏ يا أهل لذات دنيا لا بقال لها إن اغتراراً بظل زائل حمق وقيل إن هذا من قوله‏.‏

ويقال‏:‏ إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه فقام وهو يقول‏:‏ ألا إنما الدنيا كظل ثنية ولا بد يوماً أن ظلك زائل وكذلك قيل‏:‏ وإن امرأ دنياه أكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها‏.‏

تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون وقال يونس بن عبيد‏.‏

ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏.‏

أي شيء أشبه بالدنيا قال أحلام النائم‏.‏

مثل آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيا‏.‏

اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم‏.‏

وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينةن فقال لها‏:‏ كم تزوجت قالت‏:‏ لا أحصيهم قال‏:‏ فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك قالت‏:‏ بل كلهم قتلت فقال عيسى عليه السلام‏:‏ بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين‏!‏ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر‏!‏‏.‏

مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها‏:‏ اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها‏.‏

وقال العلاء بن زياد‏:‏ رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها‏:‏ ويلك من أنت قالت‏:‏ أو ما تعرفني قلت‏:‏ لا أدري‏!‏ من أنت قالت‏:‏ أنا الدنيا قلت‏:‏ أعوذ بالله من شرك‏!‏ قالت‏:‏ إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم‏.‏

قال أبو بكر بن عياش‏:‏ رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت‏:‏ لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء‏.‏

ثم بكى أبو بكر وقال‏:‏ رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد‏.‏

وقال الفضيل بن عياض‏:‏ قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية ومشوه خلقها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه فيقولون‏:‏ نعوذ بالله من معرفة هذه‏!‏ فيقال‏:‏ هذه الدنيا التي تناحرتم عليها بها تقاطعتم الأرحام وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم ثم يقذف بها في جهنم فتنادي‏:‏ أي رب أين أتباعي وأشياعي فيقول الله عز وجل ألحقوا بها أتباعها وأشياعها‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رىه الناس عجوز شمطاء زرقاء عمشاء قال‏:‏ فقلت‏:‏ أعوذ بالله منك‏!‏ قالت‏:‏ لا والله‏.‏

لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم‏!‏ قال‏:‏ فقلت من أنت قالت‏:‏ أنا الدنيا‏.‏

مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها‏:‏ اعلم أن الأحوال ثلاثة‏:‏ حالة للم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد‏.‏

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما لي وللدنيا‏!‏ وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية بل لا يبني لبنة على لبنة‏.‏

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال ‏"‏ أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال‏:‏ الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها‏.‏

وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة

والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة واللحد هو الميل الآخر وبينهما مسافة محدودة فمن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومنهم من قطع ثلثيها ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها‏.‏

وكيفما كان فلا بد له من العبور والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان‏.‏

مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها‏:‏ اعلم أن أوائل الدنيا تبدو عينة لينة يظن الخائض فهيا أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات‏!‏ فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال‏:‏ مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام‏.‏

مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة وعلائقها عن بواطنهم منقطعة وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من

أعظم المتفجعين بفراقها فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة‏.‏

قال عيسى عليه السلام‏:‏ بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا وبحق أقول لكم إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ وبحق أقول لكم إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله‏.‏

مثال آخر لما بقي من الدنيا وقتلته بالإضافة لما سبق‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع‏.‏

مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك‏:‏ قال عيسى عليه السالم‏:‏ مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله‏.‏

مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا‏.‏

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك بن سفيان الكلابي ‏"‏ الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء قال‏:‏ بلى قال ‏"‏ فإلام يصير ‏"‏ قال‏:‏ إلى ما قد علمت يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم وقال أبي بن كعب‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم وضرب مطعم بن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه وقال الحسن‏:‏ قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل ‏"‏ فلينظر الإنسان إلى طعامه ‏"‏ قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار‏.‏

وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه‏.‏

مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها‏:‏ علم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إلهيا فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه‏:‏ وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس

ينفعه التأسف‏.‏

وبعضه تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات ولا منفعك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً‏.‏

وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك ومنهم من مات في الأوحال ومنهم من نهشته الحيات فتفرقوا كالجيف المنتنة‏.‏

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها‏.‏

فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً‏.‏

ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة ولكن لما وصل إلى الوطن استراح ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً‏.‏

فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم‏.‏

وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا وشيء من ذلك لا يصبحه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه‏.‏

وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل‏.‏

مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعيف إيمانهم‏:‏ قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ‏"‏ إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه فقالوا‏:‏ هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال‏:‏ يا هؤلاء‏:‏ فقالوا‏:‏ يا هذا‏!‏ فقال علام أنتم فقالوا‏:‏ على ما ترى فقال‏:‏ أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا‏:‏ لا نعصيك شيئاً قال‏:‏ عهودكم مواثيقكم بالله فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال‏:‏ فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال‏:‏ يا هؤلاء‏!‏ قالوا‏:‏ يا هذا‏!‏ قال‏:‏ الرحيل‏!‏ قالوا‏:‏ إلى أين قال‏:‏ إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال أكثرهم‏:‏ والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة - وهم أقلهم - ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل‏.‏

ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها‏:‏ اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً واحداً بعد واحد فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه لا ليتملكه ويأخذه فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له فلما استرجع منه ضجر وتفجع ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراها‏.‏

فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه‏.‏

اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام‏.‏

القسم الأول‏:‏ ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان‏:‏ العلم والعمل فقط وأعني بالعلم‏:‏ العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا‏.‏

ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه حتى قال بعضهم‏:‏ ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل وكان آخر يقول‏:‏ اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر‏.‏

فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حبب إلي من دنياكم ثلاث‏:‏ النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا‏.‏

وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة فنقول هذه ليست من الدنيا‏.‏

القسم الثاني‏:‏ وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة

والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين فكتب إليه عمر‏:‏ من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها فإذا أتاك كتابي هذا فقد القسم الثالث‏:‏ وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن ‏"‏ وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل‏.‏

وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه‏.‏

فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولاً للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا‏.‏

ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلث صفات‏:‏ صفاء القلب أعني طهارته عن الأدناس وأنسه بذكر الله تعالى وحبه لله عز وجل‏.‏

وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة‏.‏

ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت‏.‏

أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار ‏"‏ إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه الحديث‏.‏

وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة وهذه السعادة تعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة فيصير القبر روضة من رياض الجنة وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجع إليه ولذلك قيل‏:‏ ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحد وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى‏.‏

فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن وصحة البدن لا تناول إلا بقوت وملبس ومسكن ويحتاج كل واحد إلى أسباب‏.‏

فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مرزعة للآخرة وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً‏.‏

والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حلالها حساب وحرامها عذاب وقد قال أيضاً ‏"‏ حلالها عذاب ‏"‏ إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يدر على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ‏"‏ هذا من النعيم الذي تسئل عنه أشار به إلى الماء البارد‏.‏

والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخر ومشقة وانتظار وكل ذلك من نقصان الحظ ولذلك قال عمر رضي الله‏:‏ اعزلوا عني حسابها حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله فإن ذلك القدر ليس من الدنيا وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه إذ تمثل له إبليس وقال‏:‏ رغبت في الدنيا‏!‏ وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياماً وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه‏.‏

وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما الذي هو لله فأقول‏:‏ الأشياء ثلاثة أقسام‏:‏ منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات وهي الدنيا المحضة المذمومة فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة‏:‏ الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى‏.‏

ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده فإن كان القصد حفظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهة كالقمر ليلة البدر فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد فإذاً الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى وإليه الإشارة بقوله تعالى ‏"‏ ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ‏"‏ ومجامع الهوى خمسة أمور‏:‏ وهي ما جمعه الله تعالى في قوله ‏"‏ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ‏"‏ والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسةسبعة‏:‏ يجمعها قوله تعالى ‏"‏ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ‏"‏ فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله‏.‏

وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة‏.‏

ولها طرفان وواسطة‏:‏ طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه‏.‏

والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة وكان طعامه أن يلتقط النوى وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء فهكذا كانت سيرته‏.‏

ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال ‏"‏ إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم قال‏:‏ فقاموا‏.‏

فقال‏:‏ اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة فجلسوا فقال‏:‏ اجلسوا إلا من كان من مراد فجلسوا فقال‏:‏ اجلسوا إلا من كان من قرن فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر‏:‏ أقرني أنت فقال‏:‏ نعم فقال‏:‏ أتعرف أويس بن عامر القرني فوصفه له فقال‏:‏ ونعم وما ذاك تسأله عنه يا أمير المؤمنين‏!‏ والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال‏:‏ ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر فقال هرم بن حيان‏:‏ لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم غلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه قال‏:‏ فعرفته بالنعت الذي نعت لي فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال‏:‏ فسلمت عليه فرد علي والسلام ونظر إلي فقلت‏:‏ حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني فقلت‏:‏ رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى فقال‏:‏ وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي قلت الله فقال‏:‏ لا إله إلا الله سبحان الله ‏"‏ إن كان وعد ربنا لمفعولا ‏"‏ قال‏:‏ فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني‏!‏ فقلت‏:‏ من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم ‏"‏ قال نبأني العليم الخبير ‏"‏ وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل قال‏:‏ قلت حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي ورسول الله ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان‏!‏ فقلت‏:‏ يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً قال‏:‏ فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ثم قال‏:‏ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم بكى‏.‏

ثم قال‏:‏ قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه ثم قرأ ‏"‏ وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ‏"‏ حتى انتهى إلى قوله ‏"‏ إنه هو العزيز الرحيم ‏"‏ فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال‏:‏ يا ابن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وهو رسول رب العالمين ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي ثم قال‏:‏ يا عمراه يا عمراه قال‏:‏ فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت قال‏:‏ فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي‏!‏ ثم قال‏:‏ أنت وأنت في الموتى كأنه قد كان ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا بدعوات خفيات ثم قال‏:‏ هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة ادع لي ولنفسك ثم قال‏:‏ اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال‏:‏ أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا‏.‏

فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك ثم سألت عنه ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له‏.‏

فهكذا كانت سيرة أبناء الأخوة المعرضين عن الدنيا‏.‏

وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا‏.‏

ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذ حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا‏.‏

نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي‏:‏ كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه‏.‏

فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك‏.‏

فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى‏.‏

بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق

حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجود وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل‏.‏

فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى ‏"‏ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ‏"‏ فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح‏.‏

ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام‏:‏ المعادن والنبات والحيوان‏.‏

أما النبات‏:‏ فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادين‏:‏ فيطلبها للآلات والأواني كالنحاس والرصاص وللنقد كالذهب والفضة ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم أما البهائم‏:‏ فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة‏.‏

وأما الإنسان‏:‏ فقد يطلب الأدمى‏:‏ أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين‏.‏

فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله ‏"‏ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ‏"‏ وهذا من الإنس ‏"‏ والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ‏"‏ وهذا من الجواهر والمعادن وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها ‏"‏ والخيل المسومة والأنعام ‏"‏ وهي البهائم والحيوانات ‏"‏ والحرث ‏"‏ وهو النبات والزرع‏.‏

فهذه هي أعيان الدنيا إلا أن لها مع العبد علاقتين‏:‏ علاقة مع القلب وهو حبه وحظه منها وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا‏.‏

ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر وهذه هي الدنيا الباطنة‏.‏

وأما الظاهرة فهي الأعيان التي العلاقة الثانية مع البدن وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين‏:‏ علاقة القلب بالحب وعلاقة البدن بالشغل‏.‏

ولو عرف نفسهوعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى وأعنى بالدابة البدن فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال‏.‏

ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده‏:‏ مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبر لها الماء بالثلج حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته‏.‏

والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج‏.‏

وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة‏.‏

فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها‏.‏

وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن فإن الفوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضهم ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها‏.‏

ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا وكيفية حدوث الحاجة إليها وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تضح لك أشغال الدنيا كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم فنقول‏:‏ الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها‏.‏

وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث‏:‏ القوت والمسكن والملبس‏.‏

فالقوت‏:‏ للغذاء والبقاء‏.‏

والملبس‏:‏ لدفع الحر والبرد‏.‏

والمسكن‏:‏ لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال‏.‏

ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه‏.‏

نعم خلق ذلك للبهائم فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ‏.‏

والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء ولباسها شعورها وجلودها فتستغني عن اللباس‏.‏

والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات وأوائل الأشغال الدنيوية وهي الفلاحة والرعاية والاقتناص والحياكة والبناء‏.‏

أما البناء فللمسكن‏.‏

والحياكة وما يكتنفاه من أمر الغزل والخياطة فللملبس‏.‏

والفلاحة للمطعم‏.‏

والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب‏.‏

والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها‏.‏

والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما أو من جلود الحيوانات‏.‏

فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات‏:‏ النجارة والحدادة والخز‏.‏

وهؤلاء هم عمال الآلات ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان‏.‏

وبالحداد كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما‏.‏

وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة‏.‏

وأما الخراز فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها‏.‏

فهذه أمهات الصناعات‏.‏

ثم عن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين أحدهما‏:‏ حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما‏.‏

والثاني‏:‏ التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت‏.‏

ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة‏.‏

فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع‏.‏

ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل فحدثت البلاد لهذه الضرورة‏.‏

ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به‏.‏

ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة‏.‏

ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له‏.‏

فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى‏.‏

فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل‏.‏

ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم‏.‏

ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها‏.‏

فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث الحاجة إلى الخراج‏.‏

ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال‏.‏

وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر‏.‏

وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال‏.‏

ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج‏.‏

وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاثة طوائف الفلاحون والرعاة والمحترفون والثانية‏:‏ الجندية الحماة بالسيوف‏.‏

والثالثة‏:‏ المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم‏.‏

فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى‏.‏

وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسبب أبواب أخر‏.‏

وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى وهكذا على التوالي‏.‏

فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات‏.‏

والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به وأعلاها الأغذية ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته ثم آلات الآلات وقد يكون في الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد والبقر آلة الحراثة والفرس آلة الركوب في الحرب‏.‏

ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة‏.‏

فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده لآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعاًفي ربح وكذلك في جميع الأمتعة والأموال‏.‏

ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم إذ كل بلد ربما لا توجد في كل آلة وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد‏.‏

بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة‏.‏

ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً‏.‏

ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم‏.‏

وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة‏.‏

وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه‏.‏

فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم‏.‏

وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء‏.‏

وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزاً عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره فيحدث منه حرفتان خسيستان‏:‏ اللصوصية والكداية إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير‏.‏

أما اللصوص‏:‏ فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد‏.‏

وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها‏.‏

وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة فلا يعطى شيئاً فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم‏.‏

وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت‏.‏

والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس ولا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين‏.‏

ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رؤوس المنابر إذ لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين‏.‏

وكل ذلك استنبط بدفيق الفكرة لأجل المعيشة‏.‏

فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه‏:‏ فطائفة علبهم الجهل والغفلة فلم تتفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا‏:‏ المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكسب حتى نأكل فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا وهذا مهذب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً وذلك كسير

السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت‏.‏

وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر‏.‏

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع فهم يتعبون في الأسفار طوال الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون الجامع تعبه ووباله وللآكل لذته‏.‏

ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أملا ذلك ولا يعتبرون‏.‏

وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس‏.‏

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير فصرفوا همهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة وأن ذلك غاية المطلب‏.‏

وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم‏.‏

ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها‏.‏

وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها‏.‏

فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا‏.‏

وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف‏:‏ فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا‏.‏

وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن‏.‏

وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة‏.‏

وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد‏.‏

وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عباده لا ينقصه عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد‏.‏

وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكليف على عوام الخلق‏.‏

ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية‏.‏

أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد‏.‏

وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل‏.‏

ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر وبقي ملازماً لسياسة الشهوات ومراقباً لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال ‏"‏ الناجي منها واحدة ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ومن هم قال ‏"‏ أهل السنة والجماعة ‏"‏ فقيل‏:‏ ومن أهل السنة والجماعة قال ‏"‏ ما أنا عليه وأصحابي وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواماً وذلك هو العدل والوسط بين الطرفيين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى - كما سبق ذكره في مواضع - والله أعلم‏.‏

تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

كتاب ذم البخل وذم حب المال

وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط وكاشف الضر بعد القنوط الذي خلق الخلق ووسع الرزق وأفاض على العالمين أصناف الأموال وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال ورددهم فيها بين العسر واليسر والغنى والفقر والطمع واليأس والثروة والإفلاس والعجز والاستطاعة والحرص والقناعة والبخل والجود والفرح بالموجود والأسف على المفقود والإيثار والإنفاق والتوسع والإملاق والتبذير والتقتير والرضا بالقليل واستحقار الكثير كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً وسلم تسليماً كثيرا‏.‏

أما بعد‏:‏ فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها ثم إذا وجدت فلا سلامة منها فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً وإن وجد حصل منه الغطيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلى خسرا‏.‏

وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات وفوائدها من المنجيات وآفاتها من المهلكات وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين‏.‏

وشرح ذلك مهم على الانفراد فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظراً في المال خاصة بل في الدنيا عامة إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل والمال بعض أجزاء الدنيا والجاه بعضها واتباع شهوة البطن والفرج بعضها وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها والكبر وطلب العلو بعضها‏.‏

ولها أبعاض كثيرة‏.‏

ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل‏.‏

ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده إذ فيه آفات وغوائل‏.‏

وللإنسان من فقده صفة الفقر ومن وجوده وصف الغنى‏.‏

وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان‏.‏

ثم للفاقد حالتان‏:‏ القناعة والحرص وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة‏.‏

وللحريص حالتان‏:‏ طمع فيما في أيدي الناس وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق والطمع شر الحالتين‏.‏

وللواجد حالتان‏:‏ إمساك بحكم البخل والشح وإنفاق‏.‏

وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة‏.‏

وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم‏.‏

ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو‏:‏ بيان ذم المال ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع‏.‏

ثم فضيلة السخاء‏.‏

ثم حكايات الأسخياء ثم ذم البخل ثم حكايات البخلاء‏.‏

ثم الإيثار وفضله‏.‏

ثم حد السخاء والبخل‏.‏

ثم علاج البخل‏.‏

ثم مجموع الوظائف في المال‏.‏

ثم ذم الغنى ومدح الفقر إن شاء الله تعالى‏.‏

بيان ذم المال وكراهة حبه

قال الله تعالى ‏"‏ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ‏"‏ فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً‏.‏

وقال عز وجل ‏"‏ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ‏"‏ الآية‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ‏"‏ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى ‏"‏ ألهاكم التكاثر ‏"‏‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساداً فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وقيل‏:‏ يا رسول الله أي أمتك شر قال ‏"‏ الأغنياء وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ دعوا الدنيا لأهلها من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وقال رجل‏:‏ يا رسول الله مالي لا أحب الموت‏!‏ فقال ‏"‏ هل معك من مال ‏"‏ قال‏:‏ نعم يا رسول الله قال ‏"‏ قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أخلاء بن آدم ثلاثة‏.‏

واحد يتبعه إلى قبض روحه والثاني إلى قبره والثالث إلى محشرة‏.‏

فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله والذي يتبعه إلى محشره فهو عمله ‏.‏

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام‏:‏ مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك فقال لهم ما منزلة الدينار والدرهم عندكم قالوا‏:‏ حسنة قال‏:‏ لكنهما والمدر عندي سواء‏.‏

وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما‏:‏ يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور‏.‏

وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال فلا نطول بتكريره وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم لأن المال أعظم أركان الدنيا‏.‏

وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا‏.‏

الآثار‏:‏ روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال‏:‏ اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله‏.‏

فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال‏:‏ أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني‏.‏

وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينت بنت جحش بعطائها فقالت‏:‏ ما هذا قالوا‏:‏ أرسل إليك عمر بن الخطاب قال‏:‏ غفر الله له ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا‏.‏

فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقاً به‏.‏

وقال الحسن‏:‏ والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله‏.‏

وقيل‏:‏ إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعها إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال‏.‏

من أحبكما فهو عبدي حقاً‏.‏

وقال سميط بن عجلان‏:‏ إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه فإنه إن لدغك قتلك سمه قيل‏:‏ وما رقيته قال‏:‏ أخذه من حله ووضعه في حقه‏.‏

وقال العلاء بن زياد‏:‏ تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت‏:‏ أعوذ بالله من شرك فقالت‏:‏ إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار‏.‏

وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع إني وجدت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم فإذا قدرت عليه ثم تركته فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم وفي ذلك قيل أيضاً‏:‏ لا يغرنك من المر قيمص رقعه أو إزار فوق عظم الس - اق منه رفعه أو جبين لاح فيه أثر قد خلعه أره الدرهم تعرف حبه أو ورعه ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك تركت ولدك ليس له درهم ولا دينار - وكان له ثلاثة عشر من الولد - فقال عمر‏:‏ أقعدوني‏!‏ فأقعدوه فقال‏:‏ أما قولك لم أدع لهم ديناراً ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم‏!‏ وإنما ولدي أحد رجلين‏:‏ إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع‏.‏

وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له‏:‏ لو ادخرته لولدك من بعدك قال‏:‏ لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي‏.‏

ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه‏:‏ يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير‏!‏ فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏

مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته قيل‏:‏ وما هما قال‏:‏ يؤخذ منه كله ويسئل عنه كله‏.‏

بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم

اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقل جل وعز ‏"‏ إن ترك خيراً ‏"‏ الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نعم المال الصالح للرجل الصالح وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ‏"‏ وقال تعالى ممتناً على عباده ‏"‏ ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كاد الفقر أن يكون كفراً وهو ثناء على المال‏.‏

ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته وغوائله حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر فإنه ليس بخير محض ولا شر محض بل هو سبب للأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك والمقيم‏.‏

والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس إذ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أكرم الناس وأكيسهم فقال ‏"‏ أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية كالعلم وحسن الخلق والفضائل البدنية‏:‏ كالصحة والسلامة والفضائل الخارجة عن البدن‏:‏ كالمال وسائر الأسباب‏.‏

وأعلاها النفسية ثم البدنية ثم الخارجة‏.‏

فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات وأدناها الدراهم والدنانير فإنهما خادمان ولا خادم لهما ومرادان لغيرهما‏.‏

ولا يرادان لذاتهما إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء والمطاعم والملابس تخدم البدن‏.‏

وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن‏.‏

ومن المناكح إبقاء النسل ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والأخلاق‏.‏

ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل‏.‏

فهو إذا محمود مذموم محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم‏.‏

فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر‏.‏

ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا عليه الصالة والسلام ‏"‏ الله اجعل قوت آل محمد كفافاً فلم يطلب من الدنيا غلا ما يتمحض خيره وقال ‏"‏ الله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ‏"‏ وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبينا صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتفش فبين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجراً فهو عابد صنم‏.‏

بل كل من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم أي قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم وهو شرك إلا أن الشرك شركان‏:‏ شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع‏.‏

بيان تفصيل آفات المال وفوائده

اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق ففوائده ترياقه وغوائله سمومه‏.‏

فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره‏.‏

أما الفوائد‏:‏ فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية‏:‏ أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها‏.‏

وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع‏.‏

النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة‏.‏

أما في العبادة‏:‏ فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما‏.‏

وأما فيما يقويه على العبادة‏:‏ فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية‏.‏

ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط‏.‏

النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس وهو أربعة أقسام‏:‏ الصدقة والمروءة ووقاية العرض وأجرة الاستخدام‏.‏

أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفئ غضب الرب تعالى وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم‏.‏

وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ما يجري مجراها فإن هذه لا تسمى صدقة بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء‏.‏

فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة وهذا أيضاً مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها‏.‏

وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة‏.‏

وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة ولو تولاه بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما ر يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران‏.‏

النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية وناهيك بها خيراً‏.‏

فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر والوصول إلى العز والمجد بين الخلق وكثرة الإخوان والأعوان

والأصدقاء والوقار والكرامة في القلوب فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية‏.‏

وأما الآفات فدينية ودنيوية أما الدينية فثلاث‏.‏

الأول أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية ومن

العصمة أن لا يجد‏.‏

ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة إذ الصبر مع القدرة أشد وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء‏.‏

الثانية أن يجر إلى التنعم في المباحات وهذا أول الدرجات فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كا يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه ويجره البعض منه إلى البعض فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً‏.‏

ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح‏.‏

وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه‏.‏

الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ في المال ثلاث آفات أن يأخذه من غير حله فقيل‏:‏ إن أخذه من حله فقال‏:‏ يضعه في غير حقه فقيل‏:‏ إن وضعه في حقه فقال‏:‏ يشغله إصلاحه عن الله تعالى‏.‏

وهذا هو الداء العضال‏.‏

فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود وخصومة أعوان السلطان في الخراج وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم‏.‏

وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال‏.‏

وكذلك صاحب المواشي‏.‏

وهكذا سائر أصناف الأموال‏.‏

وأبعدها عن كثرة الشغل‏:‏ النقد المكنوز تحت الأرض ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه‏.‏

وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك‏.‏

فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات‏.‏

نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير‏.‏

بيان ذم الحرص والطمع ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس

اعلم أن الفقر محمود - كما أوردناه في كتاب الفقر - ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس والمسكن ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره ولا يشغل قلبه بما بعد شهر‏.‏

فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لو كان لبن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحىإليه أتيناه بعلمنا مما أوحى إليه فجئته ذات يوم فقال ‏"‏ إن الله عز وجل يقول‏:‏ إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها‏:‏ إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ منهومان لا يشعبان منهوم العلم ومنهوم المال وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان‏:‏ الأمل وحب المال ‏"‏ أو كما يقال‏.‏

ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أن كان أوتى قوتاً في الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال ‏"‏ أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة وروى أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال‏:‏ أي عبادك أغنى قال‏:‏ أقنعهم مما أعطيته قال‏:‏ فأيهم أعدل قال‏:‏ من أنصف من نفسه‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار ‏"‏ وقال أبو هريرة رضي الله عنه‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كن ورعاً تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع فيما رواه أبو أبو أيوب الأنصاري‏:‏ أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ يا رسول الله عظني وأوجز فقال ‏"‏ إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً وأجمع اليأس مما في أيدي الناس وقال عوف بن مالك الأشجعي‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة - فقال ‏"‏ ألا تبايعون رسول الله ‏"‏ قلنا‏:‏ أوليس قد بايعناك يا رسول الله ثم قال ‏"‏ ألا تبايعون رسول الله ‏"‏ فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا‏:‏ قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك قال ‏"‏ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس وأن تسمعوا وتطيعوا ‏"‏ وأسر كلمة خفية ‏"‏ ولا تسألوا الناس شيئاً قال‏:‏ فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه‏.‏

الآثار‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما الغنى قال‏:‏ قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك وفي ذلك قيل‏:‏ العيش ساعات تمر وخطب أيام تكر أقنع بعيشك ترضه واترك هواك تعيش حر فلرب حتف ساقه ذهب وياقوت ودر وكان محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكل ويقول‏:‏ من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد‏.‏

وقال سفيان‏:‏ خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود‏:‏ ما من يوم إلا ومسلك ينادى يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك‏.‏

وقال سميط بن عجلان‏:‏ إنما بطنك يا بن آدم شبر فلم يدخلك النار وقيل لحكيم‏:‏ ما مالك قال‏:‏ التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس‏.‏

ويروى أن الله عز وجل قال‏:‏ يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول‏:‏ إنك وإنك فيقطع ظهره فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق‏.‏

وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه - فكتب إليه‏:‏ قد رفعت حوائجي إلى موالاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن فقال‏:‏ أسرها إليه ما قدم من صالح العمل وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء‏:‏ وجدت أطول الناس غماً الحسود وأهنأهم عيشاً القنوع وأصبرهم على الأذى الحريص إذ طمع وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا وأعظمهم ندامة العالم المفرط‏.‏

وفي ذلك قيل‏:‏ آرفه ببال فتى أمسى على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه إن القناعة من يحلل بساحتها لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه وقد قيل أيضاً‏:‏ ونازح الدار لا أنفك مغترباً عن الأحبة لا يدرون ما حالي بمشرق الأرض طوراً ثم مغربها لا يخطر الموت من حرصي على بالي ولو قنعت أتاني الرزق في دعه إن القنوع الغنى لا كثرة المال وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى‏:‏ حلتان لشتائي وقيظي وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها وعاتب أعرابي أخاه على الحرس فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته وكأن ما غاب عنك قد كشف لك وما أنت فيه قد نقلت عنه كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً‏.‏

وفي ذلك قيل‏:‏ أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدنيا كأنك لا تموت فهل لك غاية إن صرت يوماً إليها قلت حسبي قد رضيت وقال الشعبي‏:‏ حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت‏:‏ ما تريد أن تصنع بي قال‏:‏ أذبحك وآكلك قالت‏:‏ والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي‏:‏ أما واحدة‏:‏ فأعلمك وأنا في يدك وأما الثانية‏:‏ فإذا صرت على الشجرة وأما الثالثة‏:‏ فإذا صرت على الجبل قال‏:‏ هات الأولى قالت‏:‏ لا تلهفن على ما فاتك فخلاها فلما صارت على الشجرة قال‏:‏ هات الثانية‏:‏ لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون ثم طارت فصارت على الجبل فقالت‏:‏ يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً قال‏:‏ فعض على شفته وتلهف وقال‏:‏ هات الثالثة‏:‏ قالت‏:‏ أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك الثالثة ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون أنا لحمي ودمي وريش لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً ثم طارت فذهبت‏.‏

وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون‏.‏

وقال ابن السماك‏:‏ إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك‏.‏

وقال أبو محمد اليزيدي‏:‏ دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب فلما رآني ابتسم فقلت‏:‏ فائدة أصلح الله أمير المؤمنين قال‏:‏ نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً‏.‏

وأنشدني‏:‏ إذا سد باب عنك من دون حاجة فدعه لأخرى ينفتح لك بابها فإن قراب البطن يكفيك ملؤه ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها وقال عبد الله بن سلام لكعب‏:‏ ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها قال‏:‏ الطمع وشره النفس وطلب الحوائج‏.‏

وقال رجل للفضيل‏:‏ فسر لي قول كعب قال‏:‏ يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له‏.‏

فمن حبك للدنيا سلمت عليه إذا مررت به وعدته إذا مرض لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك‏.‏

ثم قال‏:‏ هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان‏.‏

قال بعض الحكماء‏:‏ من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال‏.‏

وقال عبد الواحد بن زيد‏:‏ مررت براهب فقلت له‏:‏ من أين تأكل قال‏:‏ من بيدر اللطيف الخبير الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين - وأومأ بيده إلى رحل أضراسه - فسبحان القدير الخبير‏.‏

بيان علاج الحرص والطمع والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة

الأول‏:‏ وهو العمل الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه فمن كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن ويقنع بأي طعام كان ويقلل من الإدم ما أمكنه ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد‏.‏

ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله يحب الرفق الأمر كله ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما عال من اقتصد وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول‏:‏ إن من فقهك رفقك في معيشتك‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الاقتصاد وحسن السمت والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ التدبير نصف المعيشة وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل ويعينه على ذلك قصر الأمل والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل ‏"‏ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ‏"‏ وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول‏:‏ إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل‏:‏ ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل‏:‏ الفقر وقد دخلا ابنا خالد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما ‏"‏ لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن مسعود وهو حزين فقال له ‏"‏ لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى ‏"‏ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ‏"‏ فإذا انسد عليه الباب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب وقال سفيان‏:‏ اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً‏.‏

أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه‏.‏

وقال المفضل الضبي‏:‏ قلت لأعرابي من أين معاشك قال نذر الحاج قلت‏:‏ فإذا صدروا فبكى وقال‏:‏ لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش‏.‏

وقال أبو حازم رضي الله عنه‏:‏ وجدت الدنيا شيئين‏:‏ شيئاً منهما هو لي فيما أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض‏.‏

وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري ففي أي هذين أفني عمري فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان‏.‏

وإنذاره بالفقر‏.‏

الثالث‏:‏ أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل فإذا تحقق عنده ذلك انبعث رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل‏.‏

وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول‏.‏

وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة‏.‏

وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم‏.‏

ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ عز المؤمن استغناؤه عن الناس ففي القناعة الحرية والعز‏.‏

ولذلك قيل‏:‏ استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره‏.‏

الرابع‏:‏ أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل‏.‏

ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم‏.‏

ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء‏.‏

الخامس‏:‏ أن يفهم ما في جمع المال من الخطر - كما ذكرنا في آفات المال - وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع وما في خلو اليد من الأمن والفراغ ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء‏.‏

ويتم ذلك بأن ينظر أبداً إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول‏:‏ لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول‏:‏ ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم قال أبو ذر‏:‏ أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي أي في الدنيا‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة‏.‏

وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء‏.‏

بيان فضيلة السخاء

اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة‏.‏

وعنه عبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ‏"‏ السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة وقال جابر‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ قال جبريل عليه السلام‏.‏

قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما وفي رواية ‏"‏ فأكرموه بهما ما صحبتموه ‏"‏ وعن عائشة الصديقية رضي الله عنها قال‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء وعن جابر قال‏.‏

قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال ‏"‏ الصبر والسماحة وقال عبد الله بن عمرو‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال ‏"‏ إن موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة وقال أبو سعيد الخدري‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي وعن ابن عباس قال‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وقال ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكرف سفسافها وقال أنس‏.‏

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة فرجع قومه فقال‏:‏ يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال ابن عمر‏:‏ قال صلى الله عليهوآله وسلم ‏"‏ إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد فمن يخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره وعن الهلالي قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه‏:‏ يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم فقال صلى الله عليه وآله وسلم ‏"‏ نزل علي جبريل فقال ‏"‏ اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم ‏"‏ إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وعن نافع عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من عظمن نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال‏.‏

وقال عيسى عليه السلام‏:‏ استكثروا من شيء لا تأكله النار وقيل‏:‏ وما هو قال‏:‏ المعروف‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الجنة دار الأسخياء وقال أبو هريرة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏"‏ إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار وإن البخيل بعيد من الله من الناس بعيد من الجنة قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل وأدوأ الداء البخل وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وقال صلى الله تعالى عليه وسلم ‏"‏ إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله عز وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدية فيحييها ويحيي به أهلها وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كل معروق صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت‏.‏

الآثار‏:‏ قال علي كرم الله وجهه‏:‏ إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عليك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد‏:‏ لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة فليس ينقصها التبذير والسرف وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال‏:‏ أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية‏.‏

وأما النجد فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل‏.‏

ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته‏.‏

وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه‏.‏

وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً‏.‏

وقيل للحسن البصري ما السخاء فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل‏.‏

قيل فما الحزم قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف قال الإنفاق لحب الرياسة‏.‏

وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول‏:‏ إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة‏.‏

وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته‏.‏

وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل‏:‏ وسمي واصل بن عطاء‏:‏ الغزال لأنه كان يجلس إلى الغزلين فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً‏.‏

وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض‏.‏

وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال‏.‏

قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه‏.‏

وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود‏.‏

وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك قال‏:‏ من كثرت أياديه عندي قيل‏:‏ فإن لم يكن قال من كثرت أيادي عنده‏.‏

وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروف عنده فيده عندي مثل يدي عنده‏.‏

وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال‏:‏ إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها لله أو لذوي القرابة أو دع فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس ولكن أمطر المعروف مطراً فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً‏.‏

عن محمد بن المنكدر عن أم درة - وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها - قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة‏.‏

ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت‏:‏ لو كنت ذكرتيني لفعلت‏.‏

وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم فأتوه حتى ملئوا عليه الدار فقال ما هذا فأخبر الخبر فأمر عبيد الله بشراء فاكهة وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم قالوا‏:‏ نعم قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم‏.‏

وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه فلما خرج معاوية قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه فمروا عليه ببخي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه فقال معاوية ما هذا فذكر له فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد‏.‏

وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثن يأبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان السخاء والحياء فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك‏.‏

وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام ‏"‏ يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته فمن كثر كثر له ومن قلل قلل له وأنت أعلم قال الواقدي‏:‏ فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم‏.‏

وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له‏:‏ يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله والكثير في ذات الله تعالى قليل وما في ملكي وفاه لشكرك فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت فقال‏:‏ يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية وأعذر علي المنع فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال‏:‏ هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم فأحضر خمسين ألفاً قال‏:‏ فما فعلت بالخمسمائة دينار قال‏:‏ هي عندي قال أحضرها فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال‏:‏ هات من يحملها لك فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين فقال له مواليه‏:‏ والله ما عندنا درهم‏!‏ فقال‏:‏ أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم‏.‏

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا‏:‏ لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر فقال‏:‏ احملوا فحملوا فقال‏:‏ ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا‏.‏

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال‏:‏ والله لأعلمن الشيطان أني عدوه فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته‏.‏

وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل‏.‏

بحق عليبن أبي طالب لما وهب لي نخلتك بموضع وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر‏:‏ والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني فإن أهلي لا يتركوني محبوساً ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس‏.‏

وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن‏:‏ إذا دخل الأمير البستان فعرفني فلما دخل الأمير البستان أعلمه فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس المال فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها‏:‏ أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع فقال‏:‏ من صاحب هذه فدعي بالرجل فقال له‏:‏ كيف قلت فقال له فأمر له بعشر بدر فأخذها ووضع الأمير الخشية تحت بساطه فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن‏:‏ حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار‏.‏

وقال أبو الحسن المدائني‏:‏ خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا‏:‏ هل من شراب فقالت نعم فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت‏:‏ احلبوها وامتذقوا لبنها‏.‏

ففعلوا ذلك ثم قالوا لها‏:‏ هل من طعام قالت‏:‏ لا إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها‏:‏ نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال‏:‏ ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش قال‏:‏ ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه فمرت العجوز ببعض سكك المدينة فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها‏:‏ يا أمة الله أتعرفيني قالت‏:‏ لا قال‏:‏ أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا فقالت العجوز‏:‏ بأبي أنت وأمي أنت هو قال‏:‏ نعم‏.‏

ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة وأمر لها معها بألف دينار وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين‏:‏ بكم وصلك أخي قالت‏:‏ بألف شاة وألف دينار فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين قالت‏:‏ بألفي شاة وألفي دينار فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار وقال لها‏:‏ لو بدأت بي لأتعبتهما فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار‏.‏

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله‏:‏ ألك حاجة يا غلام قال‏:‏ صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال‏:‏ استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك‏.‏

وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له‏:‏ هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به ولهذا الرجل بعير سمين فقال له في النوم‏:‏ نعم فباعه في النوم بعيره بنجيبه فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب فقال رجل منهم‏:‏ من فلان بن فلان منكم - باسم ذلك الرجل - فقال‏:‏ أنا فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً وذكر الميت صاحب القبر قال‏:‏ نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم فقال‏:‏ خذ هذا نجيبه ثم قال‏:‏ هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول‏:‏ إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه‏.‏

وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض فقال‏:‏ يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه‏:‏ ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك قال‏:‏ لا ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني‏.‏

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله‏:‏ ما لهؤلاء قالوا يبكون لدارهم فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً‏.‏

وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم‏.‏

وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار‏.‏

وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل فأمر لها بزق من عسل فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا فقال‏:‏ إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا‏.‏

وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها وكان تحت لبد أجلس عليه فإذا خرج قال‏:‏ خذ ما تحت اللبد حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ‏.‏

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة‏:‏ بلغني عنك خصال فحدثني لها فقال‏:‏ هي من غيري أحسن منها مني فقال‏:‏ عزمت عليك إلا حدثتني بها فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط ولا صنعت طعاماً قد فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه‏.‏

ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت

إني سمعت مع الصباح مناديا يا من يعين على الفتى المعوان ثم قال‏:‏ ما حاجتك قال‏:‏ ديني قال‏:‏ وكم هو قال‏:‏ ثلاثون ألف درهم قال‏:‏ لك دينك ومثله‏.‏

وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم‏:‏ إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال‏:‏ أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء قال‏:‏ فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده‏.‏

وعن أبي إسحاق قال‏:‏ صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان فقلت‏:‏ لست أهل هذا المسجد فقالوا‏:‏ إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين‏.‏

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله‏:‏ سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول‏:‏ كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً فولد لبعضهم مولود قال‏:‏ فجئت إليه وقلت له‏:‏ ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال‏:‏ رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء قال‏:‏ ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه وقال‏:‏ هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء قال‏:‏ فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال‏:‏ فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال‏:‏ سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له‏:‏ اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه فقال‏:‏ هذا مالكم وليس لرؤياي حكم فقالوا‏:‏ هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة قال‏:‏ فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر وقال‏:‏ يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء فقال أبو سعيد‏:‏ فلا أدري أي هؤلاء أسخى وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال‏:‏ مروا فلاناً يغسلني فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال‏:‏ ائتوني بتذكرته فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين فكتبها على نفسه وقضاها عنه وقال هذا غسلي إياه أي أراد به هذا‏.‏

وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى ‏"‏ وكان أبوهما صالحاً ‏"‏ وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه‏:‏ يا لهف قلب على مال أجود به على المقلين من أهل المروءات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب ثم أقبل على كل

من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء‏.‏

وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه‏.‏

وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول‏:‏ أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ومالي لا يبلغني فعالي وقال محمد بن عباد المهبلي‏:‏ دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود فوصله بمائة ألف أخرى‏.‏

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى فقال له سعيد‏:‏ ما يبكيك‏!‏ قال‏:‏ أبكي على الأرض أن تأكل مثلك فأمر له بمائة ألف أخرى‏.‏

ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه وقال‏:‏ عسى أن أقوم من رضي فأكافئه فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول‏:‏ إن حراماً قبول مدحتنا وترك ما نرتجي من الصفد فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه‏.‏

كم أقام بالباب قال‏:‏ شهرين قال‏:‏ أعطه ثلاثين ألفاً وجئني بدواة فكتب إليه‏:‏ أعجبتنا فأتاك عاجل برنا قلا ولو أمهلتنا لم نقلل فخذ القلي وكن كأنك لم تقل ونقول ونحن كأننا لم نفعل وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة‏.‏

قد تهيأ مالك فاقبضه فقال‏:‏ هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك‏.‏

وقالت سعدى بنت عوف‏:‏ دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك فقال اجتمع عندي مال وقد غمني فقلت وما يغمك ادع قومك فقال يا غلام علي بقومي فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان قال‏:‏ أربعمائة ألف‏.‏

وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال‏:‏ إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن فقال‏:‏ الثمن فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن‏.‏

وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فقيل‏:‏ ما يبكيك فقال‏:‏ لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام أخاف أن يكون الله قد أهانيي‏.‏

وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال ما جاء بك قال علي أربعمائة درهم دين فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي‏.‏

فرحم الله من هذه صفاتهم وغر لهم أجمعين‏.‏